“
لم يكن لي طريق آخر عدا هذا الطريق، ومع أني لم أتعرف عليه على مدى سنوات بداية عمري، إلا أن مكة كانت دائما هي هدفي قبل أن يعي عقلي أنها تناديني ، واتجاهي . كانت مكة تناديني منذ زمن طويل قبل أن كانت تعلن بصوت قوي : «مملكتي في الحياة الدنيا كما هي في العالم الآخر؛ فمملكتي للجسم كما هي للروح، تسع ما يفكر به الإنسان وما يحسه ببدنه وما يفعله – تجارته وصلاته، فراش نومه وعلاقته بالآخرين ؛ مملكتي لا تعرف حدا ولا نهاية»،
““
“الطريق إلى مكة”
من أشهى وأعظم الكتب التي قرؤتها
وهو موسوعة ميسرة تاريخية مغرية لشغوف ٍباكتشاف حقبة زمنية ليست ببعيدة عاشها أجدادنا و أسلافنا ..
يصحبك في بداية الكتاب الكاتب ليوبولد فايس (محمد أسد) معه معتلياً الجمل فتشعر بتمايلك مع خطوات الجمل وتسمع هسيس حوافره وهي تعبر الرمال وتسمع تنهيداتها عبر رحلة يجوبها في صحراء نجد العذية العذبة مستمتعاً على الكثبان الممتدة الكثيفة والنسيم الحارق يلفح وجهك ووجهه ببلاغة وصور حية تشبه إلى حد كبير صوراً ملتقطة تواً من كاميرته وهو المراسل الصحفي النمساوي والذي يتكلم عن حياته التي عاشها مرتحلاً متنقلاً وباحثا عن مكنونات العقائد والنفس البشرية ومتأملاً في تحول المجتمع الأوربي بعد الحرب العالمية الأولى ومتدبرا لماطرأ بعدها في العالم الغربي والشرقي.
انه صديق الملك عبدالعزيز_ رحمه الله _المخلص والذي قابل ابنائه الأمراء سعود وفيصل ودون انطباعاته عنهم ،و الذي سار في رحلات بأمر من الملك يؤدي فيها رسائله ومهامه حتى استأذنه اخيراً في رحلة خاصة به وله يقطعها على ناقته سائراً مع دليله زيد من قبيلة شمر يحل لغز نفسه ويبحث عن وطنه الحقيقي.
ثم يسرد مغامراته العديدة التي خاضها عبر و سائل تنقل عديدة معتليا الخيل والعربات مرة أو يركب فيها السفينة و القطار وحتى ركب الجمل وكذلك السيارة
- لم يخب ظني يوماً في قراءة كتاب سيرة ذاتية حيث أعود من رحلتي الممتعة مزودةً بالكثير من الكنوز الفكرية والتاريخية حسب توجه الكاتب ويزداد إعجابي ونهلي منها حين يكتبها متمكن في الأدب متذوق لعذوبته فيصدر خلاصة تجاربه بأسلوب يقطر شهداً، كما هوالحال في سيرة غازي القصيبي رحمه الله “حياة في الإدارة” و في هذا الكتاب المترجم “ الطريق إلى مكة” والذي ترجمه ترجمةً فاخرة المترجم( رفعت السيد علي).
- للكتاب تأثير ساحر فهو يستحوذ على كل انتباهي، بحث عميق في مكنونات النفس ؛ الروح والجسد وعلاقتهما الوثيقة التكاملية بالإيمان بالله تعالى واليقين بوعده. حكاية شاب كان يبحث عن معنى غير مادي للحياة التي فقدتم عناها لكل ابناء جيله في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى فمزقت معنى الإنسانية ووثاقها البسيط ،الشاب الذي غدا رجلا في مقتبل االثلاثين يجوب صحراء الجزيرة العربية الخلابة بسمائها المرصعة بنجوم تتلألأ والتي يجزم بأنها أجمل وأقرب سماء تأملتها نفسه.
- هذاالشاب الأعزل طوعاً من غرور وعجرفة الأوروبي والذي يتمنى بصدق أن يكون عربياً يتناغم مع الصحراء ورياحها الرملية القاسية فيقارن بين الشخصية العربية مقابل الشخصية الأوربية.
- على الرغم من أن ذاك الشاب كان يهودي النشئة فإنه وقف إلى جانب الحق العربي، وناصر الحق الفلسطيني ضد اليهود بعد أن عاين الحقيقة بعينه وقرأها بطريقة غير محايدة قائلاً:” تعجبت كيف لأناس تميزو بذكاء مبدع مثل اليهود أن يفكروا في الصراع بطريقة أحادية ،فقط؟ وتعجبت كيف لأمة (يقصد اليهود) عانت ووقعت عليها مظالم عدة ثم توقع الظلم على أمة أخرى بريئة من الفظائع والويلات التي تعرض لها اليهود “ ثم أنهى وجهة نظرة قائلا:” مثل تلكا لظاهرة لم تكن الأولى في التاريخ ولكنها مبعث حزني الشديد لأنها تقع هذه المرة على مرأى مني”.
- تأمل بعين البصيرة المشهد السياسي الذي أثاره اثناء زيارته لخاله في فلسطين وهو في العشرينات من عمره فقرر أن يكون مراسلاً صحفيا لصحيفة “فرانكفورتر تستيتونغ” الألمانية وكانصوت الحقيقة رغم يهوديته مقابل راتب زهيد نظراً للأزمة الاقتصادية الألمانية ومعدل التضخم العالي.
وهذا الشاب الذي يبلغ ثلاثة وعشرون عاماً يملك روحاً مغامرة مقدامة تعزم على خوض اكتشافاتها دون الإكتراث بالمخاطر، فمثلاً حين سُرقت محفظته المحتوية على جوازه ونقودة وهو قاصداً دمشق في محطة القطار لم تنهزم روحه ونوى دخولها سيراً على قدميه ومتسللاً بهوية مزيفة.
الكتاب ضخم ٥٥٩ صفحة،لكن ممتع ومسترسل ولم أشعر أنه ممل أو طويل بل على العكس كنت أتمنى أن لا ينتهي فهو صادق وقريب إلى النفس.